الجمعة، 12 سبتمبر 2008

أفعل التفضيل وجنايته

جناية [ أفعل ] التفضيل على الشخصية العربية !
د. مصطفى رجب

لا أحد يستطيع أن يحدد بالضبط بدء ولع العقل العربي باستخدام صيغة التفضيل ، فكتب الأدب تروي الكثير عن أهجى بيت ، وأمدح بيت ، وأغزل بيت ، وأفخر بيت قالته العرب !! ومن العجيب أن بعض المؤلفين – قديماً وحديثاً – قد يدفعهم تعصبهم لشاعر كبير كجرير مثلاً إلى أن يجعلوا قوله :
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح ؟
هو أمدح بيت قالته العرب ، وقوله :
إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا!
أغزل بيت قالته العرب ، ويختارون له أهجى بيت ، وأفخر بيت إلى آخر هذه اللعبة التي تنتهي بالحكم المتوقع : أن جريراً هو أشعر العرب !!
هذا التفكير " الأحادي " – بضم الهمزة أو بمدها ( الآحادي) - ، كانت له انعكاسات خطيرة على العقل العربي ، فأبو حنيفة هو أعظم الفقهاء ( عند أنصاره بالطبع ) ولما كان الشافعية يرون إمامهم الشافعي هو أعظم الفقهاء وأتقاهم ، كان عليهم واجب لازم : وهو الحط من مكانة أبي حنيفة ، ولأن مالكاً هو أعلم الثلاثة كان لابد للمالكية من التهوين من شأن أبي حنيفة والشافعي ، وهكذا صنع الحنابلة ، ولأن الأربعة في النهاية هم " الأعظم " فقد ضاعت جهود فقهاء عظام لم تتح لهم شهرة الأربعة مثل : الأوزاعي ، والإمام زيد ، والليث بن سعد ، وداود الظاهري ، وغيرهم .
ويمكن أن يقال نفس الكلام عن علماء الحديث ، فغالبية المسلمين يطيب لهم استخدام تعبير " أصح" كتاب بعد كتاب الله كوصف لصحيح البخاري أو صحيح مسلم . والإباضية يصفون مسند الربيع بن حبيب بأنه " أصح " كتاب بعد كتاب الله فتتسع هوة الخلاف – نفسياً على الأقل – نتيجة الإحساس بالدونية الذي يرتبط ارتباطاً حتمياً باستخدام صيغة التفضيل .
ومع أن كتب اللغة تؤكد أن التفضيل كصيغة اشتقاقية لا يعني إلا زيادة المفضل على المفضل عليه ، دون سلب المفضل عليه الخاصية الأصلية التي هي موضوع التفاضل ، إلا أن قولنا : زيد أحد بصراً من عمرو أصبح يعني في مفهومنا أن عمرواً لابد له من نظارة طبية كثيفة كثافة الشعر الحداثي !!
مع أن نظره قد يكون مثلاً 6 على 9 في حين يكون نظر زيد 6 على 6 ، وبذلك يكون هناك ملايين – من الخليج إلى المحيط – نظرهم يتراوح بين 6 على 12 و 6 على 60 ولكنهم لا يشعرون بالمهانة التي يشعر بها عمرو حين يسمع تلك الجملة التفضيلية .
والذي ترتب على هذا :
أولاً : انحياز المفضَّل عليه إلى نفسه ، وانحياز أنصاره إليه ومحاولتهم الذب عنهم ، فنتج عن ذلك أن وجد في المجتمع العربي فريقان كبيران : الفرزدقيون والجريريون ، وتحولت العقلية العربية من الأحادية إلى الثنائية . ففي مصر مثلاً أكثر من خمسة عشر نادياً رياضياً ولكن المصري الأصيل لابد له من أن يكون أهلاوياً أو زملكاوياً . . فالنادي الأهلي ونادي الزمالك هما جرير والفرزدق ، ولا معنى لأن يشجع أحد أحداً غيرهما .
وكثير من شعرائنا في مطلع هذا القرن كانوا مجيدين حقاً – بمقاييس عصرهم – مثل أحمد محرم ومحمد عبد المطلب وخليل مطران وعلي الجارم ، ولكن الكرة الأرضية لم تكن تتسع إلا لاثنين : شوقي وحافظ . وشأن الأدب شأن الشعر ففي الوقت الذي كانت أقلام : محمد حسين هيكل ، وتوفيق دياب ، وأحمد أمين ، وعبد الوهاب عزام ، ثم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ، لم تكن الساحة تحتمل إلا المبارزين الاثنين : طه حسين والعقاد .
ولابد لكل مسلم بالغ عاقل – كما يقول الفقهاء – أن يشجع أحد الشاعرين : شوقي أو حافظاً ، وأن يشجع أحد العملاقين : طه حسين أو العقاد .
وإذا أردت إقناع أحد المتعصبين بأنك متحرر عن التأييد المطلق والذم المطلق ، وأنك تحب لطه حسين الأيام وحديث الأربعاء بنفس الدرجة التي تحب بها كتاب العقاد عن ابن الرومي وكتابه عن نفسه " أنا " اتهمك من تناقشه بأنك من " الباطنية " أو من الذين يؤمنون بمبدأ " التقية " أي أنك متحيز ولكنك تخفي تحيزك لأديبك المفضل . .
وما زالت صحافتنا تكرس هذا الوضع ، ففلان أشجع العرب ، وفلان أعلم أهل عصره ، وفلان أمهر لاعب في الفريق .
ومن الأحادية إلى الثنائية أضاع العقل العربي جهوداً كبيرة في الخصومات والعصبية كان من الممكن أن تستغل لمزيد من العطاء والإبداع ولا حاجة بنا إلى تضييع الوقت في المقارنة بين البحتري وأبي تمام ، وشوقي حافظ ، والمتنبي وأبو جلمبو . . !!!