مجرد توقيع !!
د. مصطفى رجب
قرر الأطباء بالإجماع أن المرارة في حاجة إلى استئصال عاجل ، وشرعت إدارة المستشفى في اتخاذ إجراءات العملية الجراحية . إلا أن المفاجأة التي أذهلت الجميع أن المريض أبى أن يوقع إقراراً بالموافقة على إجراء الجراحة . اضطر مدير المستشفى للتدخل حين أعلموه بالموقف ، وكان رد فعله هو الضحك الحزين المشوب بعدم الفهم . فعلى مدى نصف ساعة من المناقشة مع المريض لم يستطع المدير فهم المسألة . . ربما كانت هذه أول مرة يواجه فيها مريضاً يرفض إجراء جراحة تحفظ له حياته ، أو هكذا يعتقد الأطباء . كانت حجج المريض قوية لدرجة أذهلت المدير فالمريض – كما قال – لا يشارك الأطباء تفاؤلهم بمستقبله الصحي ، لأن هذا المستقبل لا يهمهم في شيء ، وقد يختلف تفاؤلهم – أو تقل حدته – لو كان أحدهم هو المريض ، ومن جهة ثانية – يقول المريض – فإنه لا يشاركهم ثقتهم بأن استئصال المرارة عملية تقليدية لا ينتج عنها الموت إذا أجريت بنجاح . فالموت قد يأتي إلى الإنسان من عمليات أبسط من المرارة بكثير مثل لدغة العقرب مثلاً ، أو مجرد حادث دراجة بخارية في الشارع . ومن جهة ثالثة – ما زال المريض يقول – فإن التوقيع على إقرار بالموافقة على الجراحة ؛ إجراء روتيني إداري يعني أن إدارة المستشفى تفكر بعقلية إدارية وليس بعقلية مهنية . فهي تسعى إلى حماية أطبائها من العقاب والمحاكمة ، وفي هذا الإجراء ما فيه من الانتهازية واستغلال الإنسان – وهو في أضعف حالاته – بغية الحصول منه على تبرئة قاتليه في صورة وثيقة يوقعها تحت ضغط الألم . كما أن هذا الإجراء نفسه يمثل ضغطاً نفسياً على المريض وإشعاراً مسبقاً له بأنه قريب من النهاية مما يكون له أثره السلبي على ضغط الدم فيرتفع فجأة في لحظات قد تتزامن مع بدء الجراحة فتحدث الوفاة . ثم إن هذا الإجراء من الوجهة الشكلية البحتة ، سخيف فورثة المريض لن تكون لديهم فرصة – في حالة وفاته – للتأكد من صحة التوقيع فسوف ينصب كل جهدهم – إلى جانب البكاء إذا كان فقيداً عزيزاً – على إنهاء إجراءات تشريح الجثة ومعاينة النيابة تمهيداً لاستخراج ترخيص بالدفن يتسنى لهم بموجبه استخراج شهادة الوفاة الضرورية لصرف المعاش والمبلغ الذي يدفع كمصاريف للجنازة .
إن الإنسانية تقتضي – والكلام ما زال للمريض – أن يوقع الأطباء بأنفسهم هذا الإقرار بعيداً عن المريض ودون أن يشعر .
- ولكن هذا تزوير .
- بل مجرد نسف للروتين لن يترتب عليه إضرار بحقوق الغير .
- ومن الذي سيوقع الإقرار ؟
- طبيب التخدير .
- ولماذا طبيب التخدير بالذات ؟
- لأن مهمته في الحالتين واحدة : فدوره التاريخي هو تغطية الحقائق ، فكما أن واجبه المهني هو رفع الإحساس بالألم عن المريض فيجب أن يتسع هذا الدور ليشمل كافة أنواع الألم : الجسدي والنفسي . والإقرار يسبب بلا شك ألماً نفسياً شديداً .
- وإذا فرضنا أنه رفض توقيع الإقرار ؟
- توقعه سيادتك !
- أنا ؟ أنا مدير المستشفى .
- والإقرار إجراء إداري فهو من صميم اختصاصك . أليست مهمتك الوحيدة في الحياة هي التوقيع قبل وضع الختم على الأوراق . كل المديرين لا صلة لهم بالعمل الحقيقي في مؤسساتهم ، بل إن مهمتهم فقط تتمثل في تعويق العمل من خلال توقيعهم ، أوتوقفهم عن التوقيع على الأوراق التي لا يفهمونها .
- أنت خرجت عن آداب الحوار .
- بالعكس . أنت الذي خرجت عن آداب الحوار .
- كيف ؟
- أنت انتقلت إلى الهجوم الشخصي عليّ وتركت الموضوع الذي نتحاور فيه .
- ليس لدي وقت : هل ستوقع إقراراً بقبول إجراء العملية لك ؟
- ليس قبل أن نتفق على أهمية هذا الإقرار .
- قلت لك ليس لدي وقت .
- إذن وقع أنت الإقرار .
- حسناً ، سأوقع قراراً بخروجك فوراً من المستشفى .
- ما دام الأمر مجرد توقيع فلماذا لا توقع الإقرار بدلاً من القرار ؟
- لا داعي للفلسفة . تفضل اخرج .
- أنا مريض يا سيدي . . . .
خرج المدير بعصبية مكرراً الأمر بالخروج ولكن المريض لم يكترث بالصراخ . تجمع العاملون بالمستشفى حول المدير الذي ترنح على كرسيه إلى الوراء وطلب ماءً مثلجاً وقبل أن يؤتى له به ، راح في غيبوبة . مرت ساعة كان الأطباء خلالها يفحصون المدير فحصاً دقيقاً تبين لهم في نهايته أن مرارة المدير توشك على الانفجار ، وفي حاجة إلى جراحة عاجلة ، كان الأطباء يتحاورون بانفعال في كيفية التصرف ، سأل المريض بإلحاح : هل سيوقع المدير إقراراً بالموافقة على إجراء الجراحة لي أم له بعد أن يفيق من غيبوبته ؟
===================
Mostafaragab1999@yahoo.com
د. مصطفى رجب
قرر الأطباء بالإجماع أن المرارة في حاجة إلى استئصال عاجل ، وشرعت إدارة المستشفى في اتخاذ إجراءات العملية الجراحية . إلا أن المفاجأة التي أذهلت الجميع أن المريض أبى أن يوقع إقراراً بالموافقة على إجراء الجراحة . اضطر مدير المستشفى للتدخل حين أعلموه بالموقف ، وكان رد فعله هو الضحك الحزين المشوب بعدم الفهم . فعلى مدى نصف ساعة من المناقشة مع المريض لم يستطع المدير فهم المسألة . . ربما كانت هذه أول مرة يواجه فيها مريضاً يرفض إجراء جراحة تحفظ له حياته ، أو هكذا يعتقد الأطباء . كانت حجج المريض قوية لدرجة أذهلت المدير فالمريض – كما قال – لا يشارك الأطباء تفاؤلهم بمستقبله الصحي ، لأن هذا المستقبل لا يهمهم في شيء ، وقد يختلف تفاؤلهم – أو تقل حدته – لو كان أحدهم هو المريض ، ومن جهة ثانية – يقول المريض – فإنه لا يشاركهم ثقتهم بأن استئصال المرارة عملية تقليدية لا ينتج عنها الموت إذا أجريت بنجاح . فالموت قد يأتي إلى الإنسان من عمليات أبسط من المرارة بكثير مثل لدغة العقرب مثلاً ، أو مجرد حادث دراجة بخارية في الشارع . ومن جهة ثالثة – ما زال المريض يقول – فإن التوقيع على إقرار بالموافقة على الجراحة ؛ إجراء روتيني إداري يعني أن إدارة المستشفى تفكر بعقلية إدارية وليس بعقلية مهنية . فهي تسعى إلى حماية أطبائها من العقاب والمحاكمة ، وفي هذا الإجراء ما فيه من الانتهازية واستغلال الإنسان – وهو في أضعف حالاته – بغية الحصول منه على تبرئة قاتليه في صورة وثيقة يوقعها تحت ضغط الألم . كما أن هذا الإجراء نفسه يمثل ضغطاً نفسياً على المريض وإشعاراً مسبقاً له بأنه قريب من النهاية مما يكون له أثره السلبي على ضغط الدم فيرتفع فجأة في لحظات قد تتزامن مع بدء الجراحة فتحدث الوفاة . ثم إن هذا الإجراء من الوجهة الشكلية البحتة ، سخيف فورثة المريض لن تكون لديهم فرصة – في حالة وفاته – للتأكد من صحة التوقيع فسوف ينصب كل جهدهم – إلى جانب البكاء إذا كان فقيداً عزيزاً – على إنهاء إجراءات تشريح الجثة ومعاينة النيابة تمهيداً لاستخراج ترخيص بالدفن يتسنى لهم بموجبه استخراج شهادة الوفاة الضرورية لصرف المعاش والمبلغ الذي يدفع كمصاريف للجنازة .
إن الإنسانية تقتضي – والكلام ما زال للمريض – أن يوقع الأطباء بأنفسهم هذا الإقرار بعيداً عن المريض ودون أن يشعر .
- ولكن هذا تزوير .
- بل مجرد نسف للروتين لن يترتب عليه إضرار بحقوق الغير .
- ومن الذي سيوقع الإقرار ؟
- طبيب التخدير .
- ولماذا طبيب التخدير بالذات ؟
- لأن مهمته في الحالتين واحدة : فدوره التاريخي هو تغطية الحقائق ، فكما أن واجبه المهني هو رفع الإحساس بالألم عن المريض فيجب أن يتسع هذا الدور ليشمل كافة أنواع الألم : الجسدي والنفسي . والإقرار يسبب بلا شك ألماً نفسياً شديداً .
- وإذا فرضنا أنه رفض توقيع الإقرار ؟
- توقعه سيادتك !
- أنا ؟ أنا مدير المستشفى .
- والإقرار إجراء إداري فهو من صميم اختصاصك . أليست مهمتك الوحيدة في الحياة هي التوقيع قبل وضع الختم على الأوراق . كل المديرين لا صلة لهم بالعمل الحقيقي في مؤسساتهم ، بل إن مهمتهم فقط تتمثل في تعويق العمل من خلال توقيعهم ، أوتوقفهم عن التوقيع على الأوراق التي لا يفهمونها .
- أنت خرجت عن آداب الحوار .
- بالعكس . أنت الذي خرجت عن آداب الحوار .
- كيف ؟
- أنت انتقلت إلى الهجوم الشخصي عليّ وتركت الموضوع الذي نتحاور فيه .
- ليس لدي وقت : هل ستوقع إقراراً بقبول إجراء العملية لك ؟
- ليس قبل أن نتفق على أهمية هذا الإقرار .
- قلت لك ليس لدي وقت .
- إذن وقع أنت الإقرار .
- حسناً ، سأوقع قراراً بخروجك فوراً من المستشفى .
- ما دام الأمر مجرد توقيع فلماذا لا توقع الإقرار بدلاً من القرار ؟
- لا داعي للفلسفة . تفضل اخرج .
- أنا مريض يا سيدي . . . .
خرج المدير بعصبية مكرراً الأمر بالخروج ولكن المريض لم يكترث بالصراخ . تجمع العاملون بالمستشفى حول المدير الذي ترنح على كرسيه إلى الوراء وطلب ماءً مثلجاً وقبل أن يؤتى له به ، راح في غيبوبة . مرت ساعة كان الأطباء خلالها يفحصون المدير فحصاً دقيقاً تبين لهم في نهايته أن مرارة المدير توشك على الانفجار ، وفي حاجة إلى جراحة عاجلة ، كان الأطباء يتحاورون بانفعال في كيفية التصرف ، سأل المريض بإلحاح : هل سيوقع المدير إقراراً بالموافقة على إجراء الجراحة لي أم له بعد أن يفيق من غيبوبته ؟
===================
Mostafaragab1999@yahoo.com